على امتداد اربعة عقود، من عمر دولة السائبة هذه، غاص غيلان الرشاوى والغلول والمكوس، وبارونات المكاسب المحرمة، وحيتان الفساد السمينة، عسكرية ومدنية، ومن تصنيفات وتوصيفات أخر يعف عن ذكر بعضها اللسان؛، غاصوا حتى الركب، وتقلبوا ظهرا لبطن، طولا وعرضا، زرافات ووحدانا، في مخاضة الطمع وذل الجشع، وفي سعار الشهوات والملذات، وانخرطوا في سباق جمع الحطام من حلاله وحرامه؛، واقترفوا الآثام والفواحش والجرائم الاقتصادية، ظاهرة وباطنة.
وعلى امتداد تلك العقود وتتابعها، وفي ظل التغيرات المتلاحقة، ورغم ما الفه الناس، شيئا فشيئا، من أنماط الفساد، كان من أندر الندر أن يسمع سامع قط، أمرا بمعروف، أو نهيا عن منكر، على صلة بجرائم الفساد، أو يسمع سؤالا عن العفة والقناعة والزهد وتحري الحلال في المكاسب، أو عن حرمة الغلول، أو عن جرم الراشي والمرتشي والرائش، أو عن مبدأ "من أين لك هذا" اللهم إلا على منابر الوعظ والإرشاد، والتي تتردد من فوقها مقولات متقادمة مبتورة الصلة بمفردات واقع الناس.
يستثنى من ذلك ما كان يتداول خلال اجتماعات او أو في بيانات أحزاب المعارضة الديمقراطية، حيث كانت مستجدات الفساد الرسمي نقطة لا تغادر جداول أعمال أو بيانات تلك الأحزاب العاكفة طوال الوقت على تقارير مدنسة ومقززة، عن بؤر ومسارات العبث بالبلاد ومقدراتها، وهي الساهرة بعيون قلقة من تنامي الظاهرة وتقبللها في مختلف الاوساط، واليائسة من وهم البعض إمكانية تخلق الإصلاح في أحشاء الفساد.
خلال نحو ثلث قرن من استبداد اليافطة الديمقراطية، وانسداد الافق السياسي، أدمنت بيانات وجداول اعمال اجتماعات هيئات الأحزاب الديمقراطية، تناول الكثير من ملفات مفاسد جيل محبط، استمرأ، تحت ضغوط الضرورات، العيش من تجارة الضمائر التي مثلت على امتداد تلك الحقبة، أغلى المجلوبات إلى سوق السلطة، وأكثر ها رواحا، خاصة في مواسم الانتخابات ومكاتب التصويت، وأبواب أحزاب الحكومة، والاستعراضات في مناسبات الازدلاف المدفوع الثمن.
ادلهمت خطوب الفساد اكثر فاكثر، وكان اقساها وأبلغها إيلاما، يوم رفعت قاطرة الفساد، زورا وبهتانا، لافتات عريضة بحرب لا هوادة فيها ضد الفساد، حرب اقترفت في ظلها كبائر لم تخطر قط لأحد على بال؛ عناوينها البراقة كانت الشغل الشاغل للإعلام الرسمي والزيارات والمهرجانات والمقابلات، فيما كانت البلاد بكل ما فيها تستحيل إلى صهارة فساد، داخل بالوعات وثقوب سوداء، من تلك التي تلتهم المجرات الكونية، وتحيل كل وجود فيها إلى فناء محض.
لولا اليقين بالله، ليئس الناس من روحه؛ لكن إيمانهم طرد يأسهم، ومن بعيد، حيث سدف ليل الفساد المظلم، لاحت بارقة صبح واعد؛ وبين كوابس الشدائد، تراءت من بعيد أحلام رخاء، وبين آهات الالم، سمعت صرخة وليد الامل!! كثيرون لم يصدقوا البشائر بان فصلا آخر مختلفا قد أطل؛ وان غصة الألم المتطاولة استحالت أملا؛ وان البهجة طردت كآبة النفوس، فأفعمت سرورا؛ إنه ميلاد عهد شام الناس بروقه من وراء سدف الغيب، وارتقبوه طويلا.. طويلا، فمن الله به، وباتت العشر الشداد، بما فيها، سطرا باهنا من التاريخ!!
هل تكون تلك العشر التي تولت عنا، غير ماسوف عليها، هي السطر الاخير في موسوعة الفساد الوطني المتطاولة، وفي كتاب العقود الاكثر ضراوة وفسادا، في تاريخ هذا المجتمع المنكوب بنظم متسلطة حكمته بأدوات الإكراه واستخفته، فأطاعها سفهاؤه فقادته بهم في كل دروبها فسادا، ومغارم، ومظالم، وجهلا وتخبطا وغباء وازدراء بكل الثوابت والقيم، وخواء في الضمائر ولهثا وراء فتات الموائد الحرام.؟!
هل نسجل بلدنا في سجلات التاريخ، وقد تهيأت لنا ظروف عهد ديمقراطي توافقي شفاف، كان مبدع سابقة التحقيقات البرلمانية الفريدة، التي توشك ان تبعث بقيادات وازنة في العشرية إلى القضاء، بشأن تسيير ملفات فساد أزكمت رائحتها، الانوف طوال العشرية؟ وهل نكتب نهاية كبائر الفساد، وجرائر الغلول والرشاوى، وسيئات العبث بالاوطان، ومآثم المتاجرة بالضمائر، وموبقات الازدراء بالمقدسات والثوابت والاختيارات؟
أجل.. أجل.. ذلك ما نرجوه ونتمناه، وما نأمل ونجد العديد من المبررات للإيمان به، فبلادنا على موعد مع التاريخ، لتنهي بإرادة ابنائها عهود الارتجال والعجز والتكاسل، وباستطاعتها في ظل العهد الجديد ان نوقف الفساد، ونحاسب مرتكبيه بالقسط، ثم نعيد رسم حدود طالما استبيحت، بين ثنائيات الحلال والحرام/ الحق والباطل/ الطيب والخبيث/الخير والشر/ المقدس والمدنس/ العمومي والخاص/الدولة والقبيلة/الوطن والجهة/ التشريع والقضاء والتنفيذ/الحزب والسلطة/ والجيش والسياسة/..
الحسن مولاي علي