محمد عبد الله ابن احمياده الملقب "وَدَّاهِي" رجل من نوع نادر ليس فيه إلا ما هو طيب وحسن: خَلْقه، خُلُقه، خطه، عطره، ثوبه، قريحته، صوته.. إلخ؛ رحمه الله رحمة واسعة.
كل ما يجوز لي ادعاؤه من علم النحو دين لهذا الرجل في عنقي وعلى الله جزاؤه عني الجزاء الأوفى، فقد درست عليه عامي 1977- 1978 متن "عبيد ربه" وبعض أشعار الستة الجاهليين (الستي) وبعض عمود النسب للبدوي رحمه الله. ورغم أن "عبيد ربه" لا يعدو أحد صغار المتون التي يتلقاها المبتدئون فإن كل ما درسته وسمعته وما درَّسته بعد ذلك للطلاب في مجال النحو حتى اليوم لم يَعْدُ إعادة شرح وتوسعا فيما تلقيته عن أستاذي "وداهي" رحمه الله.
في أواخر سنة 1977 كنا في وادي الناقة؛ القرية الوليدة التي لا تعدو حيا بدويا تتخلله مبان اسمنتية لا تصل عدد أصابع اليد الواحدة هي (من الشمال إلى الجنوب) مكتب المقاطعة، ومسكن الحاكم، وقسمان ابتدائيان، وما لا أراه يبلغ عشرة أكواخ والباقي خِيم (لعل الأخوين محمدن بشير أحمدو و Abdoullah Oubeid يصححان ما أخطأت فيه) وأثناء حصة من الطراد المستمر مع أصدقائي المراهقين نادتني الوالدة - رحمها الله- وقالت لي: إذا كان هذا يرضاه لأصدقائك أهلهم فأنا لا أرضاه لك! اذهب إلى "وداهي" وادرس عليه في أوقات فراغك.
امتثلت أمرها دون نقاش ولا اعتراض فذهبت إليه مساء اليوم نفسه فيما أظن، وكنت قد أجدت التمييز ولم أصل بعد إلى الإعراب، وبعد استعلام موجز ومُرَكّز عما تعلمته من قبلُ أمرني بدراسة "عبيد" وبسرعة صرت بمثابة ابنه ويده اليمنى، ولم أسعد بخدمة أحد سعادتي بخدمته، ولانشغالي بما يكل إلي كان يكتب لي ما ينبغي أن أكتبه لنفسي؛ ومن ذلك نسخة من "عبيد" بخط يده الكريمة ذيلها بأنه كتبها لي، كما استمر يكتب لي قصيدة من أشعار الستة الجاهليين (هم امرؤ القيس وعلقمة والنابغة وزهير وطرفة وعنترة) ويشرح لي أبياتا منها يوميا ويدربني فيها على الإعراب جنبا إلى جنب مع الحصة اليومية من "عبيد" أو "البدوي" فإذا أنهيت قصيدة كتب لي أخرى. وما زلت أقتني بعض ما كتبه لي كما يقتنى أندر الكنوز (منه الصورة المرفقة).
كان "وداهي" ذا موهبة تربوية فائقة لم أر من يدانيها إلا أفرادا معدودين كمحمد يحيى ابن الشيخ الحسين ومحمد سالم ابن عبد الودود – رحمهما الله- ونظرائهما من أفذاذ العلماء، وأؤكد خلو ما قلته من المبالغة! ومن أهم ما يميزه أنه حين يشرح الدرس يستوعبه المتلقي بسهولة غريبة. وأذكر أنه لم يكن يبدو كمن يُعَلِّم، وإنما إخاله يذكرني بما هو بديهي ومعهود لدي لشدة وضوحه وسلاسته رغم أني لم أعرفه من قبل.
بيد أن من دروسه ما استوعبته نظريا في حينه ثم فسرته لي الحياة تطبيقيا في وقت لاحق، من قبيل بيتين من إحدى قصائد امرئ القيس:
1. وَكَأَنَّ شارِبَها أَصابَ لِسانَهُ ** مومٌ يُخالِطُ جِسمَهُ بِسَقامِ
2. وَكَأَنَّما بَدرٌ وَصيلُ كتيفَةٍ ** وَكَأَنَّما مِن عاقِلٍ أَرمامُ
(الإقواء من الشاعر لا مني).
ففي العقد التاسع من القرن الميلادي المنصرم عملت فترات متقطعة "وﮔافا" في بعض حوانيت التجزئة بالعاصمة الاقتصادية (للمرحلة "الحانوتية" من حياتي نتوءات تستحق وقفات، وهو ما أرجو أن أصل إليه في الذكريات المبعثرة) وما يدخل في الموضوع هنا أنني كنت صيف 1984 أعمل في متجر "سقط" بالطرف الشرقي من انواذيب المسمى "صاله" و"تركه" التي أضيفت إليها لاحقا صفة "المبلولة" بعد ترحيل أكواخها سنة 1989 إلى المرتفعات الواقعة غرب المطار ورحيل الاسم مع الأكواخ، فصار هناك حيان بهذا الاسم؛ وهو ما دعا السكان إلى إلحاق الصفة للتمييز بين المسميين (صاله اليابسة، صاله المبلوله).
كانت لنا جارة مسنة مشهورة هناك بالإسراف على نفسها وإدمان الخمر دون وازع من دين أو سلطة أو ضمير، وكانت تقضي معظم فترة السكر في الشارع، فإذا كانت في سَورة الخمر الأولى بدت كأنها لكناء لا تبين رغم فصاحتها وصخبها في أوقات الصحو، فإذا تجاوزت تلك المرحلة انقلب الأمر إلى غناء وطرب لا يعترف بسكون الليل ولا يعكره ضجيج النهار، ثم تصحو يومين أو ثلاثة فتعاود الشرب وتتكرر الحالة ذاتها. شرحت لي الحياة أول البيتين بهذه المرأة!
(وَكَأَنَّ شارِبَها أَصابَ لِسانَهُ ** مومٌ يُخالِطُ جِسمَهُ بِسَقامِ)
في السفرة ذاتها ذهبت إلى انواذيب في سيارة تجوب فلوات شاسعة متباينة التضاريس في رحلة متعبة دامت أكثر من 24 ساعة وعدت في طائرة "فوكير" حديثة آنذاك في رحلة لم تزد على 35 دقيقة شرحت لي البيت الثاني.
(وَكَأَنَّما بَدرٌ وَصيلُ كتيفَةٍ ** وَكَأَنَّما مِن عاقِلٍ أَرمامُ)
***
انتقلت من وادي الناقة مطلع سنة 1979 ولم آته إلا زائرا بعد ذلك، ثم انتقل "وداهي" إلى إديني وظل هناك حتى وفاته سنة 1994 فقلَّت لقاءاتنا، ولكن ذكراه الفواحة ستظل ملازمة لذهني ما بقيت، وحقه سيظل أكبر من أي شكر أسديه. رحمه الله وحفظ ذريته الطيبة وأهل بيته الأكرمين وزملائي من طلابه، وذرية الجميع وطلابه وأحبابه.
محمد عبد الله(وداهي) بن محمدو بن احمياده، العلوي الآبيري، ولد سنة 1915م عند بئر الكلي جنوب شرقي العاصمة نواكشوط ، كان فتى أديبا أريبا شاعرا مجيدا في الشعر الفصيح والحساني بليغ المنطق سريع البديهة حاد الذكاء حلو الفكاهة حسن الخط، سديد الرأي يرجع إليه في قضايا الشأن العام. وقد درس القرآن على ابن عمه محمد عبد الله بن بيدي (ت 1958م) ثم أخذ العلم عن الشيخ محمد سالم بن ألما وصحب المختار بن ابلول والقاضي محمذن بن محمد فال ومحمد بن ابنُ ول احميده.
أفنى عمره في تدريس القرآن والعلم ، وتوفي رحمه الله سنة 1995 م ودفن في مقبرة المدروم جنوب قرية إديني) قال عنه الشاعر لمرابط ولد دياه في نظم المدافن :
وزر هناك أحد الأعيان .. أو قل إذا شئت فتى الفتيان
ودّاهِ مَن جمع حسن الخلق .. لخلق عذب ووجه طلق
وخلدت يمينه الخط الحسن .. ينقاد فيها بالزمام والرسن
و قال عنه الأستاذ محمد الأمين بن آباه في نظم المآثر:
وكان ودّاهِ فتى الفتيان .. وشاعر الفصيح والحساني.
وقد رثاه الشاعر ديده بن بو بقصيدة منها:
صروف الدهر تفجع من قديم
على رغم الأحبة بالكريم
كريم الخلق غادرها شريفا
ولم تبق المنية من أريم
ومن كخليله وداه يوما
عديم الشكل في شرف وخيم