أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، أبناء موريتانيا العظيمة والجميلة، في هذه اللحظة بالذات، أنا أسعدُ رجلٍ على وجه الأرض. وكيف لا أكون سعيداً وقدماي تلامسان من جديد تراب وطني، بعد عشر سنوات طوالٍ من المنفى الإجباري وبالإكراه ؟ يمكن القول إنها كانت المحنة الأكثرَ إيلامًا في حياتي كإنسان. لقد افتقدتُ هذه الأرض كثيراً، وشدَّني الحنينُ لهوائها الدافئ! أما أنتم، مواطني الأعزاء، فلو أن لي عدوًّا لدودًا لما تمنيت له من شط المزار ما عانيته وأنا بعيد عنكم. باختصار: أرجو أن لا يحرم أحدٌ من وطنه، أو يُخرج منه بالقوة، أو يُبعد عنه بتعسف. بالنسبة لي، كان الغياب ألمًا مضاعفاً: ففي نهاية عقد طويل من الغربة بعيدًا عن الوطن الأم، صعدت إلى باريها روحُ أمي التي أنجبتني على هذه الأرض، دون أن يُتاح لي أن أرافق جثمانها الطاهر إلى مثواها الأخير. لذا، فإن خطواتي الأولى فوق هذه الأرض الغالية ستكون باتجاه مرقدها الأخير. ليس هذا أفضل تأبين، لكن لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، فأنا مؤمن وراض بالقضاء والقدر، ولساني منعقدٌ عن الشكر الجزيل والعرفان لكل الذين امتلكوا شجاعة القرار والفعل، ومكَّنوني من العودة، ومن أن أقف على ضريح والدتي متضرعا إلى المولى عز وجل أن يشملها برحمته الأبدية وأن يسكنها فسيح جناته. شكراً لرئيس الجمهورية الذي اتخذ لدى تسلُّمه مقاليد الأمور شجاعة في مواجهة التشاؤم والتشكيك والتآمر، وخطا واثقًا على درب إعادة وطننا الغالي إلى سكة دولة القانون والديمقراطية. فبفضل شجاعة وانفتاح السيد الرئيس استعدنا تقدير إخوتنا العرب والأفارقة، وكرامتنا واحترامنا على الصعيد الدولي كشعب وأمة. قد يبدو الأمر مجرد كلام، لكنه عينُ الحقيقة وشهادة لا لبس فيها من شخص لم يزده البُعد إلا انشغالا بصورة وطنه على المشهد الدولي. في ظل هذه القيادة الشجاعة، ندعو الله سبحانه وتعالى أن يُعينَ شعبنا على التصالح مع ذاته، ويوفق رئيسنا محمد ولد الشيخ الغزواني في مسعاه لتحقيق المستقبل الأفضل لوطننا الحبيب. الشكر الجزيل موصول أيضا لأولئك القضاة الأحرار وحُماة الحرية الذين تحلوا بالجرأة في إحقاق الحق وإنهاء التعسف. لقد أسسوا نموذجا يجب احتذاؤه، فمصداقية العدالة ضرورية وأساسية في دولة القانون التي يحمل بها شعبنا في تطلُّعه لبناء أمة ديمقراطية لها مسسات قوية وعلاقات تعاون مع جميع الشركاء. إنني واثق من أن التنمية المستدامة لبلدنا لا تتأتَّى إلا بالسلم مع الخارج والعدالة في الداخل. أمنيتي الأعز لوطننا الكريم هي أن لا نُلقيّ أبدا بأيّ من مواطنينا في سجن المنفى البغيض، لمجرد أنه مختلف أو يفكر بطريقة مختلفة. سامح الله المتواطئين، بدرجات متفاوتة، في الظلم الذي عانيتُه وعاناه الكثير من الموريتانيين الآخرين. ليس في قلبي مكان للكراهية ولا لذرَّة استياء من ما اقترفوه في حقي. على المستوى الشخصي، وبكل تواضع، وفي إطار ما أتْقنه أكثر، ستستمر جهودي للنهوض باقتصاد بلدنا، ولتحسين الظروف المعيشية لمواطنيه، فحتى، وأنا في المنفى، لم أتوقف عن خدمة بلدي. وأود في هذا المقام أن أشيد إشادة مستحقة بفريق مستشفى العيون التابع لمؤسسة بوعماتو على التفاني والالتزام، رغم المحن، في خدمة المرضى والأكثر عوَزًا على وجه الخصوص. للأطباء وطاقم التمريض وجميع الموظفين التقنيين والإداريين أقول: شكراً لكم على الصمود ونكران الذات في مهمتكم الإنسانية رغم المضايقات والاستهداف. من ناحيتي، وعلى الرغم من النفي القسري، كنت دائما أعمل، وإذا سمحتم لي سوف أستأنف العمل هنا وسوف يتجدد اتصالي بكم وبأرض أجدادنا التي افتقدتها كثيراً، فهي بحق: بلاد بها نيطت علي تمائمي .. وأول أرض مس جلدي ترابها عليَّ استدراكُ الوقت الضائع، فخلال سنوات المنفى العشر الطوال لم أعثر على ترياق لمحبة موريتانيا الغالية التي تتملكني وأتملكها. لقد عانيتُ كثيراً جراء اقتلاعي من أديم وطني، وسوف أجانب الحقيقة إن قلت إن الأمر لم يكن مؤلماً. ومهما كانت جراح المنفى عميقة ومؤلمة، فلا أظن أنني عانيت أكثر منكم. وكما قال المؤرخ والسياسي الفرنسي (أدغار كيني) المحكوم عليه بالنفي في ظل الإمبراطورية الثانية، فإن «النفي الحقيقي لا يكون باقتلاعك من وطنك، وإنما بجعلك تعيش فيه دون أن تجد ما يحببك فيه». لهذا يصعب عليَّ وصفُ الذي كنتم تعيشون داخل الوطن. فلنعمل معا لاستعادة ما يحبب إلينا وطننا. عندها لن يعرف أي موريتانيا طريق المنفى بعد اليوم، ولا يُسعدني شيء أكثر من ذلك. لقد أنصف التاريخ (أدغار كيني) منذ قرابة قرنين من الزمن لدرجة أن في العديد من مدن فرنسا شوارع وأماكن شهيرة تحمل اسمه. أما أنا فسعادتي في لقائكم من جديد، واعتزازي الكبير هو أن بعضكم يحملونني في قلوبهم، وهذا فخر يغمرني إلى الأبد. بارك الله فيكم وفي وطننا الغالي والجميل.