تعتبر الأسر والقبائل والأعراق والفئات والجهات، محاضن طبيعية للفرد، تستقبله بالزغاريد والأمل حين يولد، وتسهر على تربيته على مثلها وقيمها، وتورثه خصائصها الخلقية والثقافيةوالاجتماعية، وتسلكه في منظومتها التعاضدية، وتتعهده بالرعاية في مختلف أطوار حياته، وتتولى عند موته تكريمه وتجهيزه وتوديعه إلى مثواه اللبرزخي، ثم تستقبل فيه العزاء والمواساة.
تلك حقيقة صارخة قائمة، يقرها الطبع، ولا يأباها الشرع؛ حقيقة لا يمكن دفعها، بل لا حاجة إلى دفعها أصلا، ما تعلق أمرها بدوائر وشؤون وممارسات تؤطرها الخصوصية، وتتم بالمراعاة الصارمة للشرع والنظم والقوانين المعمول بها، وما دام ميدانها وغايتها اكتساب أصحابها منافع ومصالح خاصة مشروعة، لا تحرم غيرهم حقا، اوتجر له ضررا أو غبنا.
إلى ذلك الحد-فقط-يعترف الشرع والقانون بمكونات المجتمع وتحيزاته؛ أما عند ما تنبت لتلك المكونات، أو بعضها، أنياب ومخالب وقرون، فتناطح بها الدولة الناظمة لها، وتخرج عن دائرة الخصوصية، إلى العموم، وعن مراعات الشرع والقانون والانضباط بهما، إلى الخرق السافر لكل منهما، ومن طلب المنفعة المشروعة الخاصة إلى جلب الضرر العام، فنحن، عندئذ، أمام مسلكيات إجرامية حقيقية، تستحق التكييف ضمن مسطرة الخيانة العظمى.
إن للدولة المعاصرة واجبات ومسؤوليات ووظائف وخصائص، تحتكرها احتكارا، بناء على ما هو مقرر في الدساتير والنظم والقوانين الناظمة للمجتمع، وهي لا تقبل فيها شريكا، ولا ينبغي لها ذلك، إلا فيما يحدده القانون من شراكة خدمية تصب في المصلحة العامة، وتكون للدولة الهيمنة فيها طبقا للقانون. وفي هذا الاستثناء لا يكون الشريك، بحال، قبيلة ولا عرقا ولا فئة من الفئات أو جهة من الجهات.
في مقدمة تلك الواجبات والمسؤوليات والمهمات الخاصة بالدولة، تبرز العدالة والقضاء، حمى مصونا محفوظا، لا يمكن تسور جدرانه ومحاريبه، مثله مثل الأمن والدفاع، فتلك مسورات لا يدخل في خصوصية الدولة بها اي استثناء؛ ومثلها العلاقات الدولية والسيادة النقدية؛ وقريبا من ذلك تأتي الإدارة، وفيها تكون المجالس الجهوية والمحلية، لا القبائل والفئات، شركاء خاضعين لإرادة الدولة.
إلى ذلك، هناك مجالات وقطاعات واسعة في الدولة، متاحة للشراكة مع المواطنين والمقيمين، طبقا للقانون، من أهمها على سبيل المثال لا الحصر، قطاعات التعليم والصحة والمصارف ومختلف القطاعات الخدمية والتجارات واستخراج المعادن والاستثمار في الثروات، لكنها شراكات ينظمها القانون يرخص رسمية تمنحها الدولة، لا لأسرة او قبيلة أو فئة او جهة، وإنما لشخصيات طبيعية او اعتبارية يعترف بها القانون الساري.