أي اللغتين ملعونة ؟!الشيخ نوح

سبت, 27/07/2019 - 21:40

“حين تتحدث مع شخص بلغة يفهمها يفتح لك قلبه، وحين تحدثه بلغته الأم فإنه يفتح لك قلبه”، هكذا قال العظيم مانديلا ذات مرة، ولكن المتفحص لهذه المقولة التي يبدو أنها عصارة تجربة وتفكير عميقين، يدرك كم وفق ماديبا فيها إلى حد بعيد، وذلك عندما ربط اللغة اللاحقة والمكتسبة ب”العقل” لأنها لغة مفكر فيها أولا قبل كل شيء، وعلاقة المكتسِب بها غالبا ما تكون علاقة واعية بأقصى ما تتيحه من فرص تواصل وما تثيره من إيحاءات، وبالتالي فإن معدل العقلانية فيها يكون أكبر، لأن المتكلم يتحدث بها فقط بوصفها “أداة” وليس بوصفها “غاية”.

كما أن إحالته اللغة الأم إلى “القلب” والعواطف فيه من العمق ما يجعلنا ندرك أنه يعني ما يقول فعلا، فاللغة الأم يكون ارتباط المتحدث بها ارتباطا عاطفيا، ووجدانيا وحتى قداسيا.

وربما تكون تلك العاطفية والقداسة كوابح تمنعه من الذهاب بهذه اللغة إلى أقصى حدودها وإلى أبعد مستويات التجريب فيها، وربما هذا ما جعل عبر التاريخ العربي الإسلامي الذين جاؤوا من خارج اللغة العربية هم أكثر من قعدها، ثم من ثورها فيما بعد، لا سيما أن ارتباط اللغة بالقداسة يجعلها صنمية وجوهرانية وغير قابلة لما أسميه “التكسير التجريبي المغامراتي” والذي يهدف إلى تخطي العقبات التعبيرية، حيث يعطي الأولوية للفكرة، ويضحي باللغة في سبيلها، ويرتكب “فظاعاتت لغوية” من أجل الاستجابة للأفكار التي لم يسبق وأن تم التعبير عنها في تلك اللغة، لأن اللغة أيضا ليست بريئة ؛فهي ليست مجرد مسبحة من الكلمات البريئة، بل هي أيضا “عقل” وحامل للثقافة، وبالتالي فإن لغة القرون الوسطى لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تعبر عما نعيشه في القرن الواحد والعشرين.

الارتباط العاطفي باللغة وهو ارتباط سلبي ونرجسي عموما، لأنه يمنعها من اكتشاف مساحات غير معهودة، ويعيقها عن الامتدادات إلى مساحات جديدة، فمثلا لولا الروح المغامراتية التي تمتع بها المسيحيون اللبنانيون ربما لم تسطع اللغة العربية أن تصبح لغة حياة، وأن تدخل العالم الحديث رغم القصور الملاحظ، وربما لم تستطع أن تتولد منها صحافة بالعربية الفصحى القريبة من حياة الناس ومن نبض الشارع ولحم اليومي.

عودة إلى التعالق العاطفي بين المتكلم ولغته الأم، فإنه هناك مثل يمكن أن نضربه للتدليل على ذلك، وهو أن من يتقن لغة أو يتكلم بها إلى جانب لغته الأم، فإنه يسهل عليه نطق “الكلمات البذيئة” والتي تعتبر “غير محترمة” باللغة الأخرى أكثر لغته الأم، وربما يمكن تجريب ذلك، فنحن قد تعودنا على المعلمين والأساتذة والفقهاء والأئمة حين يلقون دروسا أو محاضرات، حتى وإن لم تكن بالعربية الفصحي، فإنهم حين يريدون نطق كلمة مثل “فرج أو ذكر أو حتى جنس” فإنهم فإنهم ينطقون هذه العبارات بالفصحى أو بالفرنسية، ولم نر مثلا من ينطقها بالحسانية أو بالبولارية أو الولفية أو السوننكية إلا باستعارة، هذا إذا تجرأ على نطقها أصلا في لغته الأصلية، لأن ارتباطه بها ارتباط عاطفي وقداسي، بحيث يرى أنه لا يمكن أن “يدنسها” بهذه العبارات.
وأتذكر أننا في الابتدائية كنا ندرس نواقض الوضوء والصلاة، وهناك مصطلحات لم نستطع معرفة دلالتها إلا بالمطالعة خارج المدرسة مثل الحيض والمني والمذي اللذة المعتادة وغير المعتادة إلخ..

ما أريد الوصول إليه هنا ليس أن اللغة الأجنبية بالضرورة هي الأمثل للدراسة بها، وإنما أريد أن ألفت إلى التباس ما يسمى “اللغة الأم” ومفهومه، وكذلك من أجل لفت الانتباه إلى أن بلدا مثل موريتانيا متعدد اللغات والثقافات لا يمكن أن يرفع فيه ذلك الشعار الذي يبدو من يرفعه لا علاقة له بالمناهج التربوية ولا بعلم النفس التربوي ولا بالتعليم، وإنما تشحذه عاطفة بدائية ووجدان متفهم اتجاه لغة معينة، ربما يرى أنها لغته الأم، وإن كان ذلك حوار آخر ما زال بحاجة إلى عقود من الأخذ والرد ربما.

إن من يفكر في إصلاح المدرسة الموريتانية وإصلاح التعليم لا يمكن أ ن تكون قضية إجرئية مثل اللغة في رأس أولوياته، لأنها قضية سياسية وعرقية وليست قضية علمية، وهي محاولة لتمييع قضية أساية ومركزية في مستقبل هذا المجتمع والبلد، من الخطئ أن نجعل “مسألة اللغة” شجرة تحجب الغابة.

اللغة لا يمكن أن تكون سببا في فشل بنيوي للتعليم في البلد، لأنه لو كانت اللغة يمكن اعتبارها سببا في الفشل لاعتبرنا أن التعريب هو سبب فشل التلعيم في موريتانيا، لأنه يلاحظ أنه منذ تمكن هذا التعريب تدهور التعليم واتجه صوب الهاوية، غير أنه من التسطيحي أن نقول إن اللغة العربية هي سبب هذا الانهيار، كما أنه من الساذج أن نقول إن اللغة الفرنسية هي سبب انهيار التعليم، لأنه بجوارنا بلدان نظام تعليمها فرانكفوني في الأساس مثل مالي والسنغال وتونس والمغرب (الذي عاد إلى الفرنسية بقوة القانون مؤخرا) ونحن نرسل طلابنا للدراسة هناك وغالبا تفرض عليهم تلك الدراسة سنة من اللغة الفرنسية، فلماذا يرسل البورجوازيون أبناءهم إلى المدرس الفرنسية الراقية، بينما يتم إقناع أبناء الهامش و الفقراء بأن دراسة هذه اللغة هو سبب انهيار التعليم..؟

انهيار التعليم هو انعكاس للانهيار العام الذي عرفته الدولة والمجتمع، فهو انعكاس للحياة السياسية والثقافية المائعة، والتي فتحت معاهد تدرس الناس كيف يقتلون أنفهم ويدخلون الجنة، ولم تفتح مسارح ولا ملاعب ولا معاهد تكوين، ولا مصانع ولا مشاريع زراعية وتنموية، إنه المناخ السياسي الديماغوجي قصير النظر، والذي لا يتمتع بأي حس استراتيجي ولا مسؤولية، والذي فتح معاهد تعلم الناس كيف يكون ولاؤهم لتنظيمات خارج البلاد أكثر من ولائهم للبلد، وكيف يتعاطفون مع غزة والفلوجة أكثر من تعاطفهم مع حي كبة مندز و الحي الساكن وأدباي الواعره.

إن الحياة السياسية التي جعلت أكبر أحزاب المعارضة يصف انقلابيا جاهلا بأن ما قام به “حركة تصحيحية”.

إنها الميوعة التي وصلت إلى الثقافة والمجتمع والسياسة والصحة والبنى التحتية حيث أصبح العمر الافتراضي للطريق المعبد 6 أشهر بدل 60 سنة.

هذا الفشل الكبير بعد ما يقارب ستين سنة من عمر الدلولة الموريتانية هو سبب فشل التعليم أيضا، حيث أصبحت شخصية المعلم والمثقف موضوعا للتنكيت، ومثالا نموذجيا للفقر وسوء الحال والثرثرة الفارغة، بينما أصبحت البطون الممتلئة من الحرام والعقول الفارغة هي النموذج الأمثل.

كيف يمكن للتعليم أن يتحسن وقد أصبح الكادحون الذين أنفقوا أعمارهم وأعمار أمهاتهم وآبائهم احتراقا في سبيل في الدراسة لا يجدون ما يقتاتون به بينما ترى الأميين وأشباه الأميين يشترون الساعات بعشرات ملايين الأوقية؟
وترى الشباب الفارغ يقضون عطلهم في منتزهات أوروبا من ريع ما سرقه جنرال أو نهبه وزير فاسد لا يجيد سوى لغة واحدة وقد لا يجيدها؟

كيف يصلح التعليم ونحن نعرف أشخاصا بالآلاف يتقاضون رواتبهم بوصفهم معلمين وأساتذة ومدراء دون أن يزوروا ولو مرة واحدة المؤسسة التي يحسبون عليها؟

يجب أن تكون هناك أيام تشاورية للمتخصصين في مجال التعليم وربما حتى الاستعانة بمتخصصين غير موريتانيين بعد أن لم تعد هناك نخبة وأدى الاستقطاب السياسي والايديولوجي إلى أمراض مستعصية على الشفاء، لأن ما ينقص التعليم والصحة وكل المرافق هو أولا الإرادة السياسية وثانيا الرؤية المنهجية والعلمية ثم الموارد المالية والبشرية والتكوين المستمرن ولعل التجربة القصية والرائدة للوزيرة نبغوها منت حابه خير دليل على أن التعليم يمكن إصلاحه إذا تم عزلع عن التجاذبات السياسية والشوفينية والعرقية..
فهل هي مشكلة اللغة العربية أم الفرنسية؟ وأيهما هي اللغة الملعونة؟..
ليست هناك لغة ملعونة إلا لغة واحدة، وواحدة فقط، إنها مشكلة لغة الميوعة والتمييع، لغة الفشل والأحذية الخشنة والديماغوجية والجهل المقدس.. إنها مشكلة لغة اللعنة.