في زمن الربيع وأيامه الجميلة حضرت ذات ضحى حفل تكريم مدرسي، كنت – حينها - على مفترق طرق بين مرحلتين: المرحلة الإعدادية والمرحلة التخصصية، وحين صعدت منصة التكريم واستلمت كشف درجاتي كدت أهتف في الجمع الكريم: "هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ"، كتابي الذي اختصر حصاد سنوات من الجد والاجتهاد، وتزين بعبارات التقدير وبالمعدلات القياسية في كل المواد، إلا أن انشغال الذهن باختيار التخصص وتحديد الوجهة اغتال فرحة الإنجاز ساعتها، فالانتقال من الإعدادية إلى الثانوية منعطف بالغ التأثير، يحتاج فيه التلميذ إلى من يمد له يد العون، ويوجهه تربويا وأكاديميا لاتخاذ القرار السليم، الذي يحدد مستقبله التعليمي ودوره في الحياة.
ولأن منظومتنا التعليمية تفتقر لمتخصصين في "الإرشاد الأكاديمي" أو "التوجيه التربوي" يقدمون المشورة لاختيار التخصصات المناسبة، ورسم الخطط التعليمية وفق أسس سليمة، وتقييم المهارات والقدرات والميول والاتجاهات، فقد درجت إداراتنا الموقرة على توجيه الطلاب المتميزين إلى الرياضيات، والجيدين إلى العلوم، وتوجيه الباقين إلى التخصصات الشرعية والأدبية، وهذا التقسيم الساذج غير المنطقي لا تزال الأجيال تدفع ثمنه، ولا تزال جنايته عميقة التأثير في حياتنا العامة والخاصة.
حاولت التغريد خارج السرب، وعزمت على التشبث بقناعتي في الاتجاه للتخصص الأدبي، مدفوعا بثقافة شرعية وعربية زرعتها الأسرة ، وتعاهدها معلمون وأساتذة أفاضل، وصلت حد كتابة محاولات شعرية وقصصية في المستوى الإعدادي، ورغم تثبيط الزملاء فقد تجلدت ودلفت لمكتب الإدارة طالبا توجيهي للتخصص الذي أريد!..
لم أكد أنهي كلامي حتى تداعى إلي من بالمكتب من أساتذة وإداريين، مسفّهين هذا القرار الصبياني، ومجمعين على أنه لا يمكن بحال توجيهي لغير الرياضيات، حاولت المنافحة عن قناعاتي، فلم يحملوا كلامي – وأنا الصغير حينها – محمل الجد، وخرجت أكفكف دمعي، وقد اغتالوا أحلامي ووجهوني قسرا لتخصص لا أرغبه ولا أجد فيه ذاتي.
بدأت دراستي الثانوية في شعبة الرياضيات فأكملت سنتين متفوقا، مع كثير من العناء والتكلف ومغالبة الطبع، ولم أستطع إكمال سنتي الثالثة بهذا النفس فكان الإخفاق والصدمة في الباكلوريا، ولم أستعد تفوقي إلا بعد أن يممت وجهي شطر الأدب، فحصدت تفوقا أهلني للمنحة وإكمال الدراسة في الخارج، ومع ذلك استمر عنائي مع جناية التوجيه حتى اليوم: قلبي مع الأدب وسحر الشعر، وعقلي مع الأعمال المصرفية ولغة الأرقام، ولولا الإثم وقطيعة رحم العلم لكان من دعائي: شتتوا شملي، شتت الله شملهم!..
لست والله متشوفا لأن أكون محور هذه المقالة، لكن دعاني واجب النصح للجيل لتقديم هذه التجربة المرة حتى لا تتكرر، وليدرك القائمون على منظومتنا التعليمية فداحة قراراتهم وسوء صنيعهم، ويعيدوا النظر في هذه القسمة الضيزى، فليست الرياضيات والعلوم أولى ولا أعمق أثرا في دنيا الناس من الشريعة والإعلام والسياسة وعلم الاجتماع وغيرها من التخصصات، بل إن الواقع يثبت أن خريجي الرياضيات والعلوم يعملون في الغالب تحت إدارة وتأثير أقرانهم خريجي العلوم الإنسانية.
وإن من المحددات المهمة في التوجيه مراعاة احتياجات سوق العمل، والتخطيط السليم للموارد البشرية، والعمل على توفير كافة التخصصات بشكل متوازن، ومع أن مجالات كثيرة تستقطب خريجي العلوم الإنسانية والأدبية فقد تعرضت هذه التخصصات لعملية تجفيف ممنهجة منذ عقود، وحيل بينها وبين الطلاب المتفوقين، فانعكس ذلك بشكل واضح على كفاءة وتأهيل خريجيها، وتسلل إليها الأدعياء وأنصاف المتعلمين.
ثم إن الطالب لا يمكنه أن يبدع إلا في تخصص يحبه ويستعذب عذاباته، فإن فرض عليه التخصص فرضا فحري به أن لا يستمر، وإن استمر فلن يقدم فيه شيئا ذا بال، فاتركوا – أيها التربويون – الوصاية على فلذات الأكباد، واستحدثوا وظيفة التوجيه الطلابي، حتى تقدموا المشورة اللازمة بشكل صحيح، فلا نجاح للعملية التعليمية دون الوظائف المساندة، من إرشاد تربوي وأكاديمي ومهني واجتماعي ونفسي، وأنشطة صفية ومدرسية.
وإن من جناية هذا التوجيه – أيضا - قصر الأذكياء والجادين على تخصصات أقل تأثيرا في الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية، مما أدى لتسرب بعض العلميين من معاملهم ومختبراتهم لفضاءات التأثير فضيعوا في الحالين، هذا إذا استوعبتهم المختبرات والمعامل، ولم يقتصر دورهم على العمل في مجالات أخرى لا تلامس اختصاصاتهم.
رسالتي للحاصلين على شهادتي ختم الدروس الإعدادية والباكلوريا: اتخذوا قرارات سليمة ولا تخضعوا للابتزاز والتوجيه تبعا للقوالب الجاهزة، ادرسوا الموقف من جميع جوانبه واستعينوا بالله أولا ثم بأهل الخبرة، واختاروا مجموعة تخصصات تحبونها وفاضلوا بينها.. اختاروا التخصص الذي يتوفر فيه شرطان: يناسب إمكاناتكم وقدراتكم أولا ويوافق رغباتكم وميولكم ثانيا، ولا مانع من الاستماع لتوجيهات الأسرة دون الارتهان لها، ولا تنسوا أن هذا القرار يعتبر محددا لطريقة عيشكم ودوركم في الحياة، وتترتب عليه آثار عميقة تعليميا وأسريا واجتماعيا واقتصاديا.