تعتبر عواصم الدول من أهم المجالات الحضرية التي تعتمد عليها هذه الدولة أو تلك في ترسيخ دعائمها وإظهارها بالمستوى الذي يليق.
صحيح أن عاصمة جمهورية الأرض السائبة قد تركها الاستعمار ولمَّا تنتقل من المرحلة الجنينية بعد، خيام وبعض المباني الحكومية هي ما خلفه المستعمر
من بنى تحتية لعاصمة أرض نهبوا خيراتها وساموا أهلها سوء العذاب، تحت خيمة متواضعة من خيام الصحراء قدَّم أبُ الأم الموريتانية الراحل لضيوف الاستقلال لحما مشويا على طريقة ساكنة هذه الربوع- وهي عادة موريتانية أصيلة في كرم الضيافة- فلما رأى أيديهم لا تصل إليه منحهم العذر في ذلك، فهذا نمط غذائي لم يعتادوا عليه وهم الوافدون من ثقافات وأنماط غذائية مختلفة ومغايرة عن نمط عيش ساكنة الصحراء.
أمة اختارت أو اختير لها أن تكون عاصمة دولتها الناشئة على ساحل المحيط الاطلسي في منقطة تسمى نواكشوط، وهو خيار من الناحية الاستراتيجية والعسكرية خاطئ لأن الدولة الفتية حينها لا تقدرعلى تأمين حدودها البرية أحرى البحرية، وأي غزو عسكري بحري –لا قدر الله- سيؤدي إلى سقوط البلاد في أول وهلة في أيدي جهات معادية، والتي كانت لها أطماعها في الحوزة الترابية الوطنية أنذك.
أراد المخططون الفرنسيون وضع تصميم ارتجالي للعاصمة؛ تمثل في أول مخطط عرفته العاصمة "مخطط موراقي" الذي هو عبارة عن مخطط حضري بسيط رسمه الوالي الفرنسي على ورقة بيضاء وهو ما يبرهن على عدم الاهتمام واللامبالاة التي كانت الادارة الاستعمارية توليه لهذه البلاد.
توالت المخططات الحضرية (مخطط هيرش ، مخطط سيرتي، المخطط التوجيهي للتهيئة الحضرية أفق 2020...)على كثرة في العدد وقلة في الفائدة والجدوائية، فلم تسهم تلك البرامج التخطيطية في النهوض بواقع عاصمة البلاد حتى تكون في مصاف عواصم العالم، بينة تحتية معدومة وهشة في أحايين كثيرة، شبكة حضرية هزيلة، دولة لا تحترم نفسها ولا شعبها فعاصمة بلد لا يوجد بها صرف صحي ولا مساحات خضراء...، إن من أهم الأدوار التي تلعبها المجالات الحضرية تدبير النفايات، وهذه إن تحُدث عنها فهناك العجب العجاب، أكوام من القمامة تتناثر في الشوارع العامة وأزقة البيوت، جيف لحمير التي أجهدها جرُّ العربات حتى أدركها الرَّدى متناثرة هنا وهناك، قد تصادفك في قلب العاصمة عند "كرفور مدريد" أما في "سينكم" و"سيزيم" "وعرفات" فلا تسأل فتلك مناطق السرح والمرح بالنسبة لها، قطعان من البقر تجول وتصول في وسط العاصمة تقتات على القمامة التي أضحت علفها المفضل!!، مشهد مخزي ومخجل للنفايات وهي تتناثر وتتكدس في كل الشوارع والاماكن العامة وكأننا أمام عاصمة للقمامة وليست عاصمة سياسية تعطي للدولة هيبتها وترفع من شأنها وتظهرها أمام العالم بالمظهر الحضاري الذي يليق، مئات المليارات رصدت لشركات وطنية وأخرى أجنبية لتدبير النفيات فكانت النتيجة أن تحولت العاصمة إلى مكب للنفايات.
كارثة حقيقة ساهمت فيها السياسات العرجاء في التدبير المجالي للعاصمة وانعدام الوطنية والعقلية البدوية للسكان، بأي عقلية يفكر الساسة ومجتمع الفوضى هذا، هل يفكرون بعقلية البدوي الظاعن أم بعقلية المهاجر الذي سيترك الديار بعد حين!!، ربما تزال العقلية البدوية تكبل الجميع، قد يكون الأمر كذلك أو قد تصدق علينا المقول التي مفادها "أن مجتمع البيضان لا يملك من المقومات ما تجعله يبني دولة، ربما ذلك هو اللغز، من يدري؟
مجتمع تنكر لكل شيء حتى قيمه وثوابته الدينية، إماطة الأذى عن الطريق صدقة، ونحن في مجتمعنا نقوم بوضع الأذى على الطريق، ينظف أحدُنا داره ويعمد إلى طرح الاوساخ والقمامة قرب جاره أو على طريق عام، غاب الوازع الديني فانهارت القيم، غاب الوازع الديني والانتماء والتجذر والاحساس بالوطنية فأصبح الجميع مِعْوَل هدم لهذا البلد الذي يرثى لحاله فالجميع يغدو وهمه ماهي انجع الطرق لأسلكها للفتك ما استطعت إلى ذلك سبيل بهذه الأرض وشعبها، مجتمع انقلب رأسا على عقب، سارق المال العام فيه -والذي يملأ أحشاءه نارا بل يملأ بطون وجيوب أقاربه وأهله وذويه وعشيرته من طينة الخبال- هو رجل "مظبوط" و"أفكراش" لا يشق له غبار، لقد ذكر لنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أنما أهلك من كان قبلنا من الامم هو أنه إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وإذا سرق فيهم الشريف تركوه، أليس من يسرق بعض الفتاة من هذه الدار أو تلك ليسد رمقه بها مخافة الموت، تقام عليه الدنيا ولا تقعد، ويطرح أرضا بضرب مبرح، ويزج به في السجون، بينما من يسرق خيرات شعب بأكمله يَنظر إليه المجتمع باحترام وتقدير بل يُحتفى به حيثما حل أو ارتحل!!! قد يكون خطر الاول اكبر من خطر هذا الاخير عند مجتمع انقلبت فيه كل الموازين، ألم يقل المصطفى محذرا من خطورة المال العام "لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء....." وإن كان رسول الله بين ظهرانينا لزاد أو سيارات لها هدير أو عمارات شاهقة أو حسابات بنكية أخفاها أصحابها في الدنيا عن الناس ففضحهم الله بها على رؤوس الخلائق، صحيح إن آكلي المال العام لا حد عليهم؛ لأن أصحاب الحقوق غير محددين؛ لكن عاقبة هؤلاء خسران وهلاك، إذا لم يتوبوا إلى الله ويردوا إلى هذا الشعب حقوقه المسلوبة ويناشدوه الصفح والمغفر على ما اقترفوه في حقه.
لهفي على وطن ضاع بين مطرقة أكلة المال العام وسندان مجتمع يعاني أزمة أخلاقية جد خطير تنذر بكارثة حقيقية، تهدد السلم والامن الاجتماعيين، قد يكون ما سطرته في هذ الجُمل نظرة سوداوية، لكنه الواقع المر في أبهى تجليتها.