تعيش بلادنا مرحلة خاصة من تاريخها السياسي تتسم بإجماع وطني حول الرئيس المنتخب الذي استطاع بفضل خطابه الجامع و انفتاحه على جل التشكيلات السياسية الوازنة من خلق إطار جديد للتفاهم و التقارب بين معظم القوي الوطنية الحية. و قد يؤسس هذا الإجماع لعهد جديد من ممارسة السلطة سمته الهدوء و تحمل المسؤولية من طرف مختلف الفاعلين السياسيين اتجاه المصلحة الوطنية. و لعلنا أمام فرصة ثمينة لمعالجة مختلف الاختلالات الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية التي عرفتها بلادنا منذ تأسيس الجمهورية إذا ما وفق أصحاب القرار في انتهاج أسلوب جديد يرتكز على الشفافية في التسيير و الكفاءة و الاستقامة في اختيار المسئولين و الحرص على مشاركة الكل في تسيير الشأن العام تلبية لتطلعات المواطنين نحو المزيد من الاستقرار و الإزهار. و تجدر الإشارة إلى أن الإمكانيات المادية و المعنوية لبلادنا كافية للنهوض بها نحو مصاف الدول النامية إذا ما توفرت الخطط الناجعة و الأرضية الملائمة للتغلب على أهم الصعاب التي لا زالت ماثلة أمامنا. و في نظري تحتاج قضايا الوحدة الوطنية و اللحمة الاجتماعية، و إصلاح الإدارة و المنظومة التربوية، و الحد من البطالة و إرساء أسس حقيقية لنهضة اقتصادية إلى عناية خاصة في هذه المرحلة المفصلية من تاريخ بلادنا. و لا شك أن تدعيم الوحدة الوطنية و اللحمة الاجتماعية ليشكل الركيزة الأساسية لبناء مجتمع منسجم فكريا و متكامل اقتصاديا. و تحقيقا لهذا الهدف يتعين في نظري القيام بإجراءات عملية تلامس تعهدات السيد الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني فى هذا المجال و لعل من أهمها:
المشاركة العادلة لمختلف المكونات في تسير الشأن العام: عرفت بلادنا منذ بداية التجربة الديمقراطية تدهورا شاملا لقيم الإدارة و غياب معتبر لتطبيق المعايير الموضوعية لانتقاء أصحاب الكفاءة و الخبرة لتسيير الشأن العام. فأصبحت المحسوبية و القبلية و الولاء السياسي هي المعايير الأساسية للاكتتاب أو تقلد المناصب الحكومية أو التدرج الوظيفي. و ساهم انتشار هذه الممارسات في تدهور خدمات الإدارة الوطنية و شعور أبناء بعض المكونات بالتهميش و الإقصاء. و لعل رؤية السيد الرئيس التي مهدت لتشكيل الحكومة الحالية بداية موفقة للقضاء على الإحساس المتنامي بالتهميش و الغبن لدى أبناء بعض المكونات الهامة من الشعب الموريتاني. و لبناء مجتمع أكثر انسجام و تماسك و للمساهمة في القضاء على خطاب الكراهية و التطرف بين الأوساط الشبابية التي تعيش واقعا اقتصاديا صعبا فإنه من الضروري تعميم هذه الرؤية شكلا و مضمونا على كافة أجهزة الدولة و إداراتها حتى تجد كل مكونة ذاتها. و على القطاع الخاص و قادة الرأي المشاركة في هذا المجهود الوطني التضامني سعيا إلى تقوية اللحمة الوطنية و زرع الثقة بين مختلف مكونات الشعب الموريتاني.
العمل على الحد من الفوارق الاقتصادية: عانت بلادنا منذ عدة عقود من ظاهرة الجفاف أو التصحر التي أثرت سلبا على المصادر الطبيعة للثروة الزراعية و الحيوانية. و أدت النتائج المتلاحقة لهذه الظاهرة و ضعف السياسات الحكومية إلى انتشار الفقر في جل المناطق الريفية التي كانت خزانا معتبرا للاكتفاء الغذائي و الاستقرار الاجتماعي. و في نظري يعتبر التركيز على الزراعة و التنمية الحيوانية ضرورة ملحة للحد من الفوارق الاقتصادية و دعم الوحدة الوطنية و تحقيق الاكتفاء الغذائي و التأسيس لاقتصاد قوي قادر على الوقوف أمام المنافسة القوية لاقتصاديات دول شبه المنطقة. و تحقيقا لهذا الهدف يتعين تشجيع الاستثمار الزراعي و التنموي في المناطق الأكثر فقرا بتوفير المقومات الأساسية من استصلاح ترابي و توفير للمصادر المائية و الدعم المالي المباشر للمزارعين في المناطق الأكثر فقرا على عموم التراب الوطني. فلا يمكن أن يستقيم أمرنا ما لم يكن ريفنا مصدرا لتأمين غذائنا. و تطبيقا لهذا التوجه يجب وضع معايير عادلة لانتقاء على سبيل المثال مائة ألف أسرة الأكثر فقرا على مستوى المناطق الزراعية الأكثر خصوبة و منح كل أسرة مبلغ شهري رمزي لا يقل عن عشرة ألف أوقية قديمة كتحفيز و سند مالي لمزاولة الزراعة و الاستقرار في أماكن الإنتاج بتأطير و مراقبة من المصالح الفنية للوزارات المختصة التي يتعين عليها اكتتاب عشرات المرشدين و المهندسين الزراعيين للنهوض بهذا القطاع نحو المستوى المطلوب. و تتجلى هنا أهمية إنشاء مؤسسة وطنية لتسويق المنتجات الزراعية الوطنية تتكفل بصيانة و تسويق الفائض من المحاصيل الزراعية حتى نتمكن من خلق نهضة زراعية قادرة على البقاء و المنافسة. و سيساهم هذا الإجراء في محاربة الفقر و التحكم في أسعار المواد الغذائية و الحد من البطالة و إنعاش اقتصاد المناطق الريفية. كما سيؤسس لصناعات غذائية قادرة على المساهمة في الرفع من مستوى النمو الاقتصادي لبلادنا و تخفيف أضرار المنافسة التي ستزداد حدة بعد اندماج بلادنا في مختلف التكتلات الجيوسياسية المحيطة.
المعالجة نهائية و شاملة لملف العبودية في بلادنا: دأبت الحكومات المتتالية على انتهاج أسلوب يفتقد على العموم لرزانة و الحنكة في معالجة مشكل العبودية، هذه الظاهرة التي تشكل عائقا هاما أمام انسجام المجتمع و تحرير طاقاته نحو المزيد من الوحدة و الازدهار. و لذلك نحتاج إلى المزيد من الجدية و الصرامة لمعالجة هذه المشكلة التى لا زالت تمارس فى بعض الاوساط المحدودة. و عليه يتعين القيام بمسح شامل على عموم التراب الوطني لحالات الاسترقاق أو شبه الاسترقاق قصد وضع حد لها و غلق هذا الباب حتى لا يكون مطية لتأجيج الصراعات البينة و تغزيم صورة بلادنا دوليا. و على المنظمات الدولية و المحلية العاملة في هذا المجال المساهمة ماديا و معنويا في القضاء على هذه الممارسة. و بهذا التصرف تأخذ السلطات دورها الحقيقي المدافع عن المتضررين بعيدا عن الصراع مع المنظمات الحقوقية و حينها يحق الحق و يتضح الباطل.
إعادة هيكلة قطاع الإعلام: لقد ساهمت وسائل الإعلام عبر التاريخ في بناء مجتمعات و ترقيتها كما استغلت أيضا لتأجيج الحروب و نشر الخراب في مجتمعات أخري. و لذلك يلعب قطاع الإعلام دورا محوريا في تقدم الأمم و تطورها، فهو الوسيلة المثلي لتوعية الشعوب و تهذيبها نحو التحكم فى مصيرها. و لا يخفى على أحد مدى الفوضوية التى وصل إليها هذا القطاع في بلادنا رغم تواجد بعض الكفاءات الوطنية الجادة. و لذلك من الضروري و العاجل العمل على تنظيم هذا القطاع شكلا و مضمونا حتى يكون رافعة حقيقية للتآلف والتآخي بين مختلف أبناء الشعب. و حتى يكتسب هذا القطاع المصداقية المفقودة لا بد من نهج جديد يضمن الحرفية في الاختيار و النزاهة في التسيير و العدالة في ترجمة التنوع الثقافي و العرقي لشعبنا.
تشجيع التمازج الاجتماعي : ساهم غياب سياسة واضحة للتمازج و التآلف الاجتماعي إلى انتشار ثقافة تصادمية في الأوساط الشبابية و التي ترقي في بعض الأحيان إلى الكراهية و التطرف. و تصحيحا لهذا الخلل يتعين اتخاذ إجراءات ملموسة لتشجيع السكن المشترك و العيش المشترك بين مختلف مكونات الشعب الموريتاني و محاربة الممارسات و الفعاليات الممجدة لمكون دون أخر و العمل على صهرها فى غالبها الوطني. كما يتعين عبر منظومتنا التربوية و التعليمية تمجيد التمازج الاجتماعي لما يحقق من تكامل فكري و ضمان للاستقرار المجتمعي.
و في النهاية تبقي الوحدة الوطنية و التآخي بين مكونات الشعب الموريتاني مطلب شرعي يستدعي منا جميعا العمل على تأسيس نظام يكرس المشاركة الفعلية لكل الموريتانيين في تسيير الشأن العام و الاستفادة من خيرات الوطن. إن أفضل هدية نقدمها للأجيال الصاعدة هي بناء فكر نير يؤمن بضرورة العيش المشترك بين مختلف مكونات الشعب الموريتاني في جو من الأخوة و المحبة و التضامن الاجتماعي.
البروفسير شامخ امبارك
أستاذ بجامعة نواكشوط